ثورة 14 أكتوبر.. التراكمات، الانطلاق ويوم النصر

تقرير / درع الجنوب

 

ثورة 14 أكتوبر 1963م، التي اندلعت شرارتها الاولى من جبال ردفان بمحافظة لحج  ضد الاستعمار البريطاني، تعد واحدة من أهم حركات التحرر الوطني في العالم العربي ، وكانت هذه الثورة نتاج تراكم طويل من النضالات والإرهاصات، حيث سعى الشعب الجنوبي للتحرر عبر عقود من الزمن، مستخدماً الوسائل السلمية في البداية ترافقها الانتفاضة الشعبية والقبلية المسلحة، ثم تحول نحو الكفاح المسلح المنظم كخيار حتمي بعدما ثبت عدم جدوى النهج السلمي في مواجهة القمع الاستعماري.

 

التراكمات والتحضير للثورة

استمرت محاولات التحرر الوطني في الجنوب  لعقود قبل اندلاع ثورة أكتوبر ،في تلك الفترة، اتبعت القوى الوطنية وسائل مختلفة للضغط على الاستعمار البريطاني، منها النضال السياسي والمطالبات بالإصلاحات والحقوق ، ومع ذلك، واجهت تلك المحاولات القمع المستمر من السلطات الاستعمارية، التي لم تكن مستعدة للتنازل عن السيطرة على الجنوب.

خلال خمسينيات القرن الماضي، بدأت تتشكل نواة الحركة الوطنية الجنوبية، والتي بدأت تدرك أن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لتحقيق التحرر الوطني، ومع بداية ستينيات القرن العشرين، اتفقت القوى الوطنية الجنوبية على ضرورة تبني الكفاح المسلح كخيار أساسي، مستفيدة من التجارب التحررية في أماكن أخرى، خصوصاً في الجزائر وفيتنام.

 

انطلاقة الثورة

انطلقت شرارة ثورة 14 أكتوبر من جبال ردفان الشامخة في عام 1963م، بقيادة الشهيد راجح غالب لبوزة، الذي أصبح رمزاً للتضحية والفداء في سبيل التحرر الوطني، في بداية أكتوبر، وقعت مواجهات مسلحة بين قوات الاستعمار البريطاني ومجموعة من الثوار بقيادة لبوزة، حيث قاد عمليات هجومية جريئة ضد قوات الاحتلال البريطانية ، وكانت هذه المواجهات بمثابة الشرارة التي أشعلت الثورة في كافة أنحاء الجنوب.

مع استشهاد لبوزة في 14 أكتوبر 1963م، انتشر لهيب الثورة سريعاً من ردفان إلى باقي المناطق الجنوبية، حيث التحمت القبائل والجماهير مع الثوار في مواجهة الاستعمار ،خلال السنوات الأربع التالية، استمرت المواجهات المسلحة بين الثوار وقوات الإحتلال البريطانية، في معارك امتدت من الجبال إلى المدن والقرى.

 

الدعم والمساندة

كانت الثورة الجنوبية جزءاً من موجة التحرر الوطني في العالم العربي خلال تلك الفترة، ووجدت دعماً كبيراً من دول عربية، وعلى رأسها مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، الذي قدم دعماً مادياً ومعنوياً للثوار ، هذا الدعم لعب دوراً محورياً في تقوية الحركة الوطنية الجنوبية وفي توسيع رقعة الكفاح المسلح.

كما أن التنظيم الدقيق للحركة الوطنية الجنوبية، وخصوصاً "الجبهة القومية لتحرير الجنوب"، كان عنصراً رئيسياً في استمرارية الثورة وتطورها. استطاعت الجبهة تنظيم صفوفها بشكل محكم، وتوجيه العمليات العسكرية والسياسية بما يضمن استمرار الزخم الثوري وتوسع رقعة المواجهة مع قوات الاحتلال الاستعمارية.

 

مراحل التصعيد والكفاح المسلح

فشلت قوات الاحتلال البريطانية في احتواء الثورة أو حصرها في منطقة ردفان، حيث انتشر الكفاح المسلح ليشمل أكثر من 15 جبهة قتال في جميع أنحاء الجنوب ، استخدم الثوار أساليب متنوعة في القتال، بدءاً من الكمائن الصغيرة إلى الهجمات الكبيرة على معسكرات الاستعمار.

في منتصف عام 1964م، بدأ العمل الفدائي في العاصمة عدن، حيث نفذ الفدائيون عمليات نوعية استهدفت المواقع العسكرية البريطانية والمراكز الاستراتيجية،  من أبرز تلك العمليات رمي القنابل على منازل وأندية الضباط الإنجليز وضرب المطار العسكري، مما أدى إلى إلحاق خسائر كبيرة بالقوات الاستعمارية.

وفي عام 1966م، تصاعدت المواجهات في عدن، وتحول الكفاح الفدائي إلى مواجهة مباشرة مع المستعمر ، نفذت عمليات عسكرية جريئة في الشوارع ضد الدوريات البريطانية، باستخدام الأسلحة الثقيلة مثل مدافع الهاون والبازوكا، ما زاد من استنزاف القوات الاستعمارية.

إحدى أبرز المحطات في مسار الثورة كانت في يونيو 1967م، عندما تمكن الثوار من السيطرة على مدينة كريتر لمدة أسبوعين كاملين ،هذه السيطرة كانت ضربة معنوية قوية للاستعمار البريطاني، وأثبتت أن الثورة قادرة على تحقيق الانتصارات على الأرض. كما عززت هذه المعركة من تعبئة الجماهير لدعم الثورة وتوسيع نطاق المقاومة.

 

يوم النصر

على الرغم من محاولات بريطانيا لقمع الثورة بكل الوسائل، بما في ذلك اتباع سياسة "الأرض المحروقة"، عبر شن غارات جوية وضرب القرى والمدنيين، إلا أن الثورة لم تضعف. بالعكس، زادت الهجمات الاستعمارية من عزيمة الثوار واستقطبت المزيد من المتطوعين من مختلف أنحاء الجنوب للمشاركة في النضال.

تُوجت الثورة بالنصر في 30 نوفمبر 1967م، عندما انسحبت قوات الاستعمار البريطانية من عدن، مُنهيةً بذلك أكثر من 129 عاماً من الاحتلال البريطاني ، كان هذا النصر تجسيداً لإرادة الشعب الجنوبي في الحرية والاستقلال، وتأكيداً على قدرة الحركات التحررية على تحقيق أهدافها مهما كانت قوة المستعمر.

 

الخلاصة

ثورة 14 أكتوبر لم تكن مجرد حركة تحررية عابرة، بل كانت حدثاً تاريخياً عظيماً أثبت أن التلاحم الشعبي الجنوبي والكفاح المسلح قادران على تحقيق الاستقلال، حتى في مواجهة أقوى الإمبراطوريات الاستعمارية ، هذه الثورة كانت نموذجاً في الصمود والتضحية، وأصبحت رمزاً للإرادة الوطنية والتطلعات التحررية في اليمن والعالم العربي.

الأجيال الحالية تحتاج إلى دراسة هذه الثورة بعمق، ليس فقط للاحتفال بذكراها، بل لاستخلاص الدروس والعبر من نضالات الجيل الذي ضحى في سبيل الحرية، وتجديد الالتزام بقيم الشجاعة والوحدة الوطنية الجنوبية  التي صنعت النصر في الماضي وتظل ضمانة للمستقبل.